ثورة في علم التاريخ والحضارة قلبت معطيات سابقة ورسمت خيوطا جديدة للوجود الإنساني، مسرح هذه الثورة مدينة نفطة الواقعة في الجنوب الغربي التونسي من ولاية توزر، حيث تم الكشف عن معلم أثري فريد من نوعه في العالم، في منطقة “غواطين الشرفة” الكائنة على مستوى 3 كيلومتر جنوب غرب نفطة، الحفريات قام بها فريق من الباحثين من المعهد الوطني للتراث بمعية باحثين من جامعة اكسفورد وجامعة لندن.
30دقيقة- درصاف اللموشي
بدأت الحفريات منذ سنة 2012 ليتم رسميا يوم 14 مارس الإعلان عن نتائج هذه البحوث، حيث وفي إطار البرنامج الوطني “تونس مدن الحضارات” نظمت وزارة الشؤون الثقافية ندوة صحفية بالتعاون مع غرفة التنمية السياحية الصحراوية والواحية بالإضافة إلى دعم الخطوط الجوية التونسية التي تحملت تكلفة التنقل فأمنت حضور فريق بريطاني من جامعة اكسفورد وباحثين من National Geographic.
نتائج الحفريات تقلب التاريخ
الموقع الذي أحدث رجّة لدى عشاق التاريخ يعود إلى حوالي 100 ألف سنة، أكد لنا نبيل القاسمي رئيس غرفة التنمية السياحية الصحراوية والواحية وهو مدرس وباحث في جامعة سوسة التونسية وشارك في الحفريات أنه يعود إلى 98 ألف سنة أي إلى الحقبة العاترية (الحقبة العاترية تنتمي إلى العصر الحجري الوسيط، توزعت في شمال أفريقيا خصوصا في جبال الأطلس وتعتبر من أقدم حضارات الإنسان العاقل) ، وجرى تحديد الحقبة من خلال تقنية SOL.
مُحدّثنا نبيل القاسمي شدّد على أن أهمية هذا الاكتشاف تكمن في أنه ينسف المعلومات السابقة حول أن الانسان العاقل الذي ظهرلأول مرّة شمال نيجيريا بالبحيرات وتشاد قبل 200 ألف سنة، خلال هجرته لم يسلك مسلكا ساحليا فقط، نظرا لأن الموقع الأثري في نفطة يثبت أن طقسها كان كطقس منطقة “السافانا” (جنوب مالي وجنوب السنيغال حاليا) وكان يوجد بها مياه عذبة وغطاء نباتي، وحيوانات كثيرة على غرار وحيد القرن والأسد والفقريات، حيث وقع العثور على هياكل عظمية لهذه الحيوانات وأدوات مصنوعة من الصوان تستعمل عادة في الصيد، ولأول مرّة يتم التعرف إلى أن الانسان العاقل نزل في مثل هذه الأماكن بتونس، والأهم ابراز الحدود التي كانت تغمرها المياه عندما كان شط الجريد على شكل بحيرات.
وقالت نبيهة عوادي، أستاذة بحوث ورئيس قسم ما قبل التاريخ بالمعهد الوطني للتراث خلال الندوة الصحفية، إن التحاليل أثبتت وجود الإنسان “العاقل” بالمنطقة، قبل 100 ألف سنة، وهو تاريخ يعود للحضارة “العاترية”. وأن الكشف يوضح “طريق هجرة الإنسان العاقل، فقد كان يعتقد إلى وقت قريب، أنه جاء عبر الطريق الساحلي، ولكن تبين أن طريقه كان عبر المناطق الداخلية حيث كان يتبع وجود المياه والبحيرات ذات المياه العذبة”. وقال نيك دراك الأستاذ بقسم الجغرافيا بكلية كينجر بلندن، إن الاكتشاف “يبين لنا أن هذه المنطقة كانت خضراء ذات مياه عذبة، وهذا مهم على المستوى العالمي، فيرصد لنا التحولات البيئة منذ 100 ألف سنة”.
إنجاز يتطلب جرأة السلطات
هذه الأهمية الكبرى للحفريات الجديدة والتي من شأنها أن تُشكّل نقلة نوعية في عالم التاريخ أوضح نبيل القاسمي أنه لا بدّ من أن تعمل الدولة التونسية على تأسيس مركز تأليفي لما قبل التاريخ يكون مقرّه مدينة نفطة بمناسبة الاكتشاف المذكور، يؤمّه الزوار التونسيون والأجانب وعلماء الآثار والحفريات وحتى الأطفال للتعرّف على عين المكان على طريقة نحت وصقل الانسان العاقل للحجارة وذبحه للحيوانات وعيشه قرب المياه العذبة، مُشدّدا على أن تشكيل مركز تأليفي على غرار الدول الأوروبية أفضل من متحف وذلك لاستيعابه لطاقة تشغيلية أكبر، ويحبّذها علماء الآثار أكثر، ودعا في خطوة أولى إلى ضرورة تسييج منطقة الحفريات للحفاظ عليها وحتّى لا يعبث بها بعض المارّة وبالتالي تتعرّض للتلف، وتفقد قيمتها الحضارية.
مسؤولون يتغيّبون
إماطة اللثام عن وقائع تاريخية جديدة تهم الإنسان العاقل كان لها صدى عالمي، خلال الندوة الصحفية التي أُقيمت في خيمة بالقرب من مكان الحفريات، حضرها فريق بريطاني ورغم أهميتها تغيّب عنها كل من وزير الشؤون الثقافية ووالي توزر، حيث اعتذر الوزير وأفاد أنه اضطر لحضور اجتماع حكومي، بينما شرح الوالي أن لديه مهاما أخرى، ومن المسؤولين حضر معتمد نفطة ورئيس النيابة الخصوصية والمندوب الجهوي للثقافة..
قيمة هذا الاكتشاف العالمي تحتاج إلى تثمينه من قبل المسؤولين وحسن استغلاله ثقافيا وسياحيا واقتصاديا.